قبل سبعين عاماً، وتحديداً في يوم 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1935 استشهد الشيخ المجاهد عز الدين القسّام، ولم يكن استشهاد القسّام حدثاً عابراً، بل كان علامة بارزة في التاريخ الفلسطيني، فاستشهاده كان الفتيل الذي أشعل ثورة 1936-1939الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني الذي كان وقتها متواطئا في تسهيل هجرة يهود العالم إلى فلسطين.
ويجمع المؤرخون والمحللون على أن الشيخ عز الدين القسام كان صاحب دعوة مستقلة وأسلوب متميز وحركة جهادية رائدة سبقت جميع الاتجاهات في ميدان الجهاد المعاصر في فلسطين، ويتلخص هذا الأسلوب في تربية جيل من المجاهدين، فكان يعقد اجتماعات سرية مكتومة في بيته وفي بيوت بعض أصدقائه، يحضرها عدد من الأشخاص، وكان يختارهم من الذين يحضرون دروسه ومواعظه، ويقوم بتهيئتهم وإعدادهم للجهاد، ويكوّن منهم خلايا جهادية، تقتصر عضويتها على نفر من المؤمنين الصادقين الذين لديهم الاستعداد الكامل للتضحية والفداء.
وعندما تم إنشاء القوة المجاهدة بشكل متكامل، كانت مقسمة إلى وحدات مختلفة المهام، حيث لكل وحدة دور خاص بها تتولاه، وهذه الوحدات هي: وحدة خاصة بشراء السلاح، وحدة خاصة للاستخبارات ومراقبة تحركات العدو البريطاني واليهودي، وحدة خاصة بالتدريب العسكري، وحدة خاصة للدعاية في المساجد والمجتمعات، وأبرز أعمالها الدعوة إلى الجهاد، وحدة العمل الجماهيري والاتصالات السياسية ووحدة جمع المال من الأعضاء والأنصار، ورعاية أسر المعتقلين والشهداء.
ولماّ قطعت الحركة القسّامية شوطاً من الإعداد تم فيه تهيئة المقاتلين للجهاد، ابتدأ رجال القسام بتنفيذ عمليات فدائية ضد المستوطنات اليهودية عن طريق إعداد كمائن والهجوم على أفراد محددين ومستوطنات معينة، بهدف طرد المستعمرين اليهود المستجلبين من خارج فلسطين.
وإذا كان الشعب الفلسطيني لم ينعم برؤية شيخ المجاهدين الشيخ عز الدين القسام وصحبه ، فها هو ذا يراه الآن في شوارع قطاع غزة ومخيمات خانيونس ورفح والنصيرات وفي مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية، يراه في عيون مجاهدي كتائب الشهيد عز الدين القسام وعملياتهم الجهادية التي أرغمت الاحتلال على لملمة جنوده وقطعان مستوطنيه والهروب تحت جنح الظلام من قطاع غزة.
ومن المؤكد أن التجربة الجهادية للشيخ عز الدين القسّام ستبقى على الدوام منبع إلهام للروح الجهادية في فلسطين، "لأن أمثال القسام يولدون بلا انقطاع ، وهذه من سنن الله في أبناء الإسلام العظيم".
كتائب القسّام تؤكد مضيها على نهج الشيخ الذي حملت اسمه
كتائب الشهيد عز الدين القسّام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، والتي حملت هذا الاسم تيمناً بالشيخ المجاهد عز الدين القسّام وتمسكاً بالمبادئ التي سار عليها حتى لحظة استشهاده، جددت في ذكرى استشهاد الشيخ القسّام تأكيدها على مواصلة نهج الجهاد والمقاومة حتى تحرير فلسطين، كل فلسطين، مشددة على أن الاندحار الصهيوني من قطاع غزة هو أولى ثمار السير على هذا الطريق، وأن المقاومة هي الخيار الكفيل بتحرير باقي التراب الفلسطيني المحتل.
وتقول كتائب القسّام في بيان لها في الذكرى السنوية السبعين لاستشهاد الشيخ القسام، "يوافق هذا اليوم الأغر، ذكرى عزيزةً على قلوب أبناء شعبنا الفلسطيني عامة، وعلى قلوب أبناء حركة "حماس" وجناحها العسكري خاصة، فهذا الذراع العسكري المجاهد، هو الذي حمل اسم القائد المظفر صاحب الذكرى، الذي ما عرف للراحة طعماً، مذ بدأت حكومات الاحتلال الظالمة باستباحة البلاد العربية، فنفر مع إخوانه يرشدهم ويبصرهم ويدعوهم إلى الجهاد، بل ويشاركهم في ساحات الوغى، فيخط بجهاده أروع آيات البطولة والفداء".
ويتابع البيان قائلاً: "فمن سوريا إلى فلسطين تتعانق الأرواح والدماء، وتحتضن أرض جنين هذا الجسد الطاهر، الذي رفض الاستسلام والخنوع حتى الرمق الأخير.. هذا القائد الرباني الفريد، الذي بدأ جهاده بثلة قليلة مؤمنة، خاض بها غمار الحرب ضد أظلم أهل الأرض .. تلك الثلة المؤمنة التي خطت معالم الطريق لتنتهي بهذا الجيش القسامي الجرار، الذي تهابه دولة الكيان المسخ، وتحسب له ألف حساب".
ويضيف البيان مشيداً بالشيخ القسام: "هذا القائد الذي انتسبت إليه كتائب القسام، فحملت البندقية مع المصحف، وبسيرته اقتدى الشرفاء، فقاتلوا أعداء الله، مستمدين قوتهم من قوة الله عز وجل، يقاتلون هذا العدو بقوة العقيدة والإيمان، لا يهابون في الله لومة لائم، مستلهمين صبرهم وثباتهم من الشيخ عز الدين القسام، الذي كان رجلاً مقداماً في زمن عز فيه الرجال، وقل فيه من ينفر بنهج وعقيدة، يقاتل أعداء الأوطان، الذين سفكوا دماء الأبرياء".
وتشدد كتائب القسّام على أن "دماء الشيخ عز الدين القسام توجه رسالة واضحة إلى أولئك، الذين يراهنون على الاحتلال، ويتشبثون بوعوده، التي وصفوها بـ "الزائفة"، أن لا خيار أمام أمة تريد استرداد الحقوق وكرامة الإنسان إلا الجهاد والمقاومة.
ويقول البيان "بعد سبعين عاماً على استشهاده نستذكر هذا الرجل، وأي رجل .. إنه رجل قد أحيا أمة وشعباً، في حين يمر على الأمة الكثير من الرجال، الذين لا يذكرون مع تقادم الزمن، فهكذا تكون القيادة، وهكذا يكتب العظماء سيرتهم بمداد من الدم الأحمر القاني، مضيفاً "ها هو نهج شيخ القساميين الذي اتبعته وحملته كتائب القسام قد أثمر نصراً مؤزراً،
كانت أولى ثماره غزة، وهو الكفيل بتحرير باقي تراب فلسطين المغتصب".
وتابع بيان الجناح العسكري لحركة "حماس" قائلاً: "لقد قاتل الشيخ القسام حتى الرمق الأخير، ولفظ الشهادتين على أرض فلسطين المباركة، هناك في أحراش يعبد، بعيداً عن مسقط رأسه جبلة في سوريا، لأن أرض فلسطين قد أنّت في أسرها فلبى النداء، متلفعاً بسلاحه، ملبياً نداء العقيدة، التي لا تحدها حدود، وبقيت كتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس تحمل اسمه لتتردد عبر الأجيال سيرته، ويُهتف باسمه في مواطن العز والفخار، وتبقى كلماته الخالدة (إنه لجهاد نصر أو استشهاد) نبراساً يضيء طريق العزة والكرامة".
عز الدين القسّام.. الميلاد والنشأة
ولد الشيخ عز الدين القسام في بلدة جبلة القريبة من مدينة اللاذقية الواقعة على الساحل السوري عام 1882، نشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، أبوه الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه حليمة قصاب من عائلة علم ودين، وكان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كُتّاب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية.
تعلم عز الدين في كتاب البلدة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وتميز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل وطول التفكير، بعدها التحق عز الدين للدراسة في الأزهر بمصر، فحضر دروس الشيخ محمد عبده، وارتوت نفسه من علمه وفهمه. كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته، وكان يرافق اهتمامه بدروس العلم اهتمام آخر بحركات التحرر التي كان يغذيها رجال الأزهر، ففهم عز الدين أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد.
تعرّف القسام في أثناء وجوده في مصر على الاستعمار الإنكليزي وقسوته وتسلطه على الشعب المصري وثرواته، حينها ترسخت لديه قناعة بضرورة مكافحة الإقطاع والتخلص من المستعمر لأنهما في رأيه يمثلان وجهين لعملة واحدة، فالظلم إذا شاع وساد يسحق الإنسان ويدمر العمران. وقد ردته هذه المشاهدات غير الإنسانية إلى بلدته جبلة، وذكرته بما يعانيه أهلها من جهل وأمية وتدن في الأوضاع الاقتصادية.
القسّام مدرساً
في العام 1906 عاد عز الدين القسام إلى جبلة بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، بعدها حصل على شهادة الأهلية، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للإطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين. كما أخذ القسام دور والده في تدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة فقدم الإسلام بفهمه الواسع الطلق، وربطته بكثير من المواطنين صداقات متينة، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته.
الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي لسورية
وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام 1920، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة (1919ـ 1920) مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات موقع حصين، وحاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض عرضهم، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين.
القسّام في فلسطين
عاش القسام ورفاقه في حيفا، ونزلت عائلاتهم في بيت واحد في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد الاستيلاء عليها وتوطين اليهود المهاجرين إلى فلسطين، وأبدى القسام اهتماماً حقيقياً بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطاء دروس ليلية، وسرعان ما أصبح فلاحو المنطقة الشمالية وعمالها يكنون له المودة والاحترام بفضل زياراته المتكررة لهم وبما يتسم به من أصالة في الخلق والتقوى.
عمل القسام مدرساً في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الدور المستقبلي الذي ينتظرهم في ظل وجود الاستعمار، ثم عمل إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الحاج محمد أمين الحسيني، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يكثر من القول: (بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم)، كما كان للشيخ القسام دروس في المسجد تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وقد جعل منها وسيلة لإعداد المجاهدين وصقل نفوسهم وتهيئتها للقتال، معتمداً اختيار الكيفية دون الكمية.
عندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين، عمل القسّام على تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وقام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المسلم، الذين أنقذهم من دائرة الانحراف والضياع بسبب قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، وأدخلهم في دائرة العمل الجاد لصالح الوطن... كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد.
عمل القسام مأذوناً شرعياً لدى محكمة حيفا الشرعية سنة 1930، وقد كانت هذه الوظيفة للقسام وسيلة من الوسائل التي اتصل عن طريقها بمختلف فئات المواطنين من شباب وشيوخ، وعمال وفلاحين، وطلاب وموظفين، وتجار وحرفيين، وتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية.
العمل الجهادي
ولم تكن عمليات مجموعات القسام تنحصر فقط بمهاجمة المستعمرات الصهيونية، وإنما قاموا بمجموعة أعمال أخرى ذكرها الأستاذ أميل الغوري في كتابه (فلسطين عبر ستين عاماً) "ملاحقة وتأديب الذين يخرجون عن الشعب ومصالحه، مثل التعاون مع الحكومة ضد الحركة الوطنية، والتجسس لحساب المخابرات البريطانية، أو بيع الأراضي لليهود أو السمسرة عليها للأعداء. وكان من أعمال القساميين العديدة الواسعة النطاق، التصدي لدوريات الجيش والشرطة، وقطع طرق المواصلات والإغارة على ثكنات الجيش ومراكز الشرطة، ومهاجمة حرس المستعمرات اليهودية، وزرع الألغام والمتفجرات فيها".
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه أعمال القسام بمثابة الروح التي سرت في أوصال الأمة، فحركت الهمم وشدت العزائم، وحفزت الناس إلى العمل، كانت الحكومة البريطانية تعلن عن مكافآت ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عن منفذي هذه الأعمال، لأنها فعلاً ألقت الرعب في قلوب اليهود الذين رأوا ولأول مرة عملاً جديداً من حديد ونار، وهذه لم يتعود عليها اليهود في فلسطين... وازدادت الحكومة البريطانية واليهود ذعراً وبثوا الأرصاد، ونشروا الجواسيس في الليل والنهار، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة.
لذا أصبحت تحركات جماعة القسام تلاقي صعوبة شديدة، إذ استطاعت الشرطة الإنجليزية الحصول على معلومات بشأن عدد أفراد الجماعة وأسمائهم وأسلحتهم، نتيجة التحقيقات المكثفة التي قامت بها، وكذلك استطاعت الحصول على معلومات تساعدهم أكثر وأكثر على تحديد مكانهم.
استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسّام
في شرح لوقائع استشهاد القسام يقول الباحث د. مصطفى كبها: "إن جماعة القسام خرجت من حيفا يوم 2 أو 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 وسارت بموازاة الانحدار الشمالي لجبال الكرمل نحو القرى بين حيفا وجنين"، موضحاً أن المجموعة التي ضمت 14 ثائرا انقسمت إلى اثنتين واحدة بقيادة القسام والأخرى بإمرة نائبه الشيخ فرحان السعدي. ورجح أن تكون الاحتياطات الأمنية هي السبب وراء ذلك، مستبعدا وقوع خلاف بين القسام ونائبه الذي ألح على استعجال إعلان الثورة".
لكن الأمور لم تسر حسب ما أراد لها الشيخ، فقد تم إطلاق النار من قبل أحد أتباعه على دورية إنجليزية وانكشف أمر الجماعة قبل تنفيذ المرحلة الأولى للخطة، أي حض الأهالي على الثورة المسلحة. فكان أن أحكمت الشرطة الإنجليزية قبضتها عليهم في أحراش نزلة "الشيخ زيد" بجوار يعبد.
ويضيف كبها أنه عند اكتشاف الشرطة مكان المجموعة ووصولها إليه، تقدم بعض أفراده من العرب وطالبوا بمكبرات الصوت الشيخ وأتباعه بالاستسلام, لكن الشيخ رفض ودعا رفاقه ليموتوا شهداء وهذا ما حصل.
من عز الدين القسام إلى أحمد ياسين
يقول الكاتب عوني فرسخ: كان لاستشهاد القسام ردة فعل جماهيرية تمثلت في موكب جنائزي مهيب في حيفا، حيث حملت نعوش القسام ورفيقي استشهاده: يوسف عبد الله الزيباري وسعيد عطية المصري، على الأكف مسافة خمسة كيلو مترات، اشتبك خلالها المشيعون بالشرطة والجنود البريطانيين دون مبالاة بالرصاص الذي انهال عليهم وسقط عدد من الشهداء والجرحى. ويذكر للزعيم الصهيوني التاريخي بن غوريون إدراكه الواعي لاغتيال القسام وتداعياته.
وعن ذلك كتب شبتاي تيبيت، المؤرخ الصهيوني، في كتابه "بن غوريون والعرب" يقول: تأثر بن غوريون كثيرا من موت الشيخ القسام. إذ كان حتى ذلك الحين على يقين بأن أي زعيم عربي على استعداد لبيع الشعب العربي كله لمصلحته الشخصية. أما الآن فهذه أول مرة يرى فيها أن زعيما عربيا يضحي بنفسه من أجل المبدأ. لذلك سيمنح هذا الحادث العرب قوة أخلاقية غير متوفرة لديهم الآن. بعد ذلك أصبح واضحا لبن غوريون أن هذا الحادث سيجر وراءه حوادث عديدة مماثلة. وأن المئات أو الآلاف الذين على استعداد للتضحية بأنفسهم مثل القسام". كما لم يفت بن غوريون التنبيه إلى أن استشهاد القسام يضع كلا من بريطانيا والحركة الصهيونية أمام نقلة نوعية في الصراع مع عرب فلسطين ومحيطهم القومي، الذي بدأ يعطي تلميحات بأن لا مناص من الدخول في مجابهة مع التحالف البريطاني ـ الصهيوني.
ويتابع قائلاً: لم تقتصر ردات الفعل لاستشهاد القسام على الزعامة الصهيونية، وإنما كان لها وقعها شديد التأثير في أوساط الزعامة الفلسطينية في أعلى المواقع. كما يتضح من موقف جمال الحسيني، زعيم الحزب العربي والرجل الثاني في قيادة الحركة الوطنية يومذاك بعد المفتي. إذ بعد زيارته لبيت الزيباري، وما لمسه من فقر عصبة القسام وبؤس عائلاتهم، كتب في "الجامعة العربية" – صحيفة الحزب– يقول: "ثورة القسام ثورة علينا جميعا شبابا وشيوخا وكهولا. إذ يقول كل واحد منا في قلبي إيمان وفي نفسي إخلاص وعزيمة، ولكني مثقل وورائي عائلة كبيرة أخاف عليها إن خرجت أن يتخطفهم الذل والعار والموت، وليس عندي ما يدفع عوادي الزمن. يسمع القسام وصحبه هذا فيثورون عليه ويخرجون... يخرجون عمن؟ عن أعشاش فيها قطع من اللحم كأفراخ العصافير ينتظر كل منها معيله ليلقي في منقاره ما يسد جوعه ويروي عطشه. فيندفع القسام وصحبه من تلك الأعشاش لتثبيت المبدأ، وإحقاق الحق، وإعلاء شأن الإيمان. ونحن نرى منهم ذلك لا يسعنا إلا أن نشعر بتبكيت الضمير واحمرار الوجوه، فندعو الله أن ينير قلوبنا بهذا الإيمان".
ويخلص الكتاب إلى القول: "ويقينا لو أن جمال الحسيني مد الله في عمره، وأتاح له زيارة بيت الشيخ أحمد ياسين بعد استشهاده، لما اختلف قوله عما كتبه عقب زيارته بيت الزيباري، رفيق القسام في استشهاده. وإن كنت أشك بأن غالبية سكان القصور من خلفاء الحسيني في الصفوف القيادية الفلسطينية الأولى لم تدر في خلدهم، وهم يشاهدون حال بيت الشيخ الشهيد، بعض الذي عبر عنه زعيم الحزب العربي ولا شعروا بتبكيت الضمير، ولا أحمرت منهم الوجوه، ولا دعوا في سرهم أن ينير الله قلوبهم بمثل الإيمان الذي كان يستبطنه خليفة القسام".
منقووول